فصل: تفسير الآيات (153- 154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (153- 154):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}
قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} إنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات؛ أما الصبر فهو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات الله وتوطينها على تحمل المشاق في العبادات، وسائر الطاعات وتجنب الجزع وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم وفسره به، ومنهم من حمله على الجهاد وأما الاستعانة بالصلاة فلأنها تجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له. وقيلك استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، وبالصلوات الخمس في مواقيتها على تحميص الذنوب {إن الله مع الصابرين} أي بالعون والنصر {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات} نزلت فيمن قتل ببدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وهم: عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعمير بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري أخو سعد بن أبي وقاص وذو الشمالين واسمه عمير بن عبد عمرو بن العاص بن نضلة بن عمرو بن خزاعة ثم بني غبشان وعاقل بن البكير من بني سعد بن ليث بن كنانة ومهجع مولى لعمر بن الخطاب، وصفوان بن بيضاء من بني الحارث بن فهر ومن الأنصار ثمانية، وهم سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد بن المنذر، ويزيد بن الحارث بن قيس بن فسحم وعمير بن الحمام ورافع بن المعلى وحارثة بن سراقة، وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد وهما ابنا عفراء وهي أمهما، كان الناس يقولون لمن قتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأنزل الله تعالى هذا الآية، وقيل: إن الكفار والمنافقين قالوا: إن الناس يقتلون أنفسهم ظلماً لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذا الاية وأخبر أن من قتل في سبيل الله فإنه حي بقوله تعالى: {بل أحياء} وإنما أحياهم الله عز وجل في الوقت لإيصال الثواب إليهم. وعن الحسن أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم، ويصل إليهم الروح والريحان والفرح كما تعرض النار عى أرواح آل فرعون غدوة وعشياً فيصل إليهم، الألم والوجع ففيه دليل على أن المطيعين لله يصل إليهم ثوابهم وهم في قبورهم في البرزخ وكذا العصاة يعذبون في قبورهم. فإن قلت: نحن نراهم موتى فما معنى قوله بل أحياء وما وجه النهي، في قوله ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات. قلت: معناه لا تقولوا أموات بمنزلة غيرهم من الأموات بل هم أحياء تصل أرواحهم إلى الجنان كما ورد، «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة» فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الروح من أجسادهم، وجواب آخر وهو أنهم أحياء عند الله تعالى في عالم الغيب، لأنهم صاروا إلى الآخرة فنحن لا نشاهدهم كذلك ويدل على ذلك قوله تعالى: {ولكن لا تشعرون} أي لا ترونهم أحياء فتعلموا ذلك حقيقة، وإنما تعلمون ذلك بإخباري إياكم به.
فإن قلت: ليس سائر المطيعين من المسلمين لله يصل إليهم من نعيم الجنة في قبورهم فلم خصص الشهداء بالذكر؟. قلت: إنما خصهم لأن الشهداء فضلوا على غيرهم بمزيد النعيم وهو أنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم ينعمون بما دون ذلك. وجواب آخر أنه رد لقول من قال: إن من قتل في سبيل الله قد مات وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فاخبر الله تعالى بقوله: {بل أحياء} بأنهم في نعيم دائم.

.تفسير الآيات (155- 156):

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)}
قوله عز وجل: {ولنبلونكم} أي لنختبرنكم يا أمة محمد واللام جواب القسم تقديره، والله لنبلونكم، والابتلاء لإظهار الطائع من العاصي لا ليعلم شيئاً، لم يكن عالماً به فإنه سبحانه وتعالى عالم بجميع الأشياء قبل كونها وحدوثها {بشيء} إنما قال: بشيء ولم يقل بأشياء لئلا يوهم أن أشياء تدل على ضروب من الخوف. وكذا الباقي فلما قال بشيء كان التقدير بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع. وقيل: معناه بشيء قليل من هذه الأشياء {من الخوف} قال ابن عباس: يعني خوف العدو والخوف توقع مكروه يحصل منه ألم في القلب {والجوع} يعني القحط وتعذر حصول القوت {ونقص من الأموال} يعني بالهلاك والخسران {والأنفس} أي ونقص من الأنفس بالموت أو القتل {والثمرات} يعني الجوائح في الثمار وقيل: قد يكون بالجدب أيضاً وبترك العمل والعمارة في الأشجار. وحكي عن الشافعي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قال: الخوف خوف الله تعالى والجوع صيام شهر رمضان ونقص من الأموال يعني إخراج الزكاة والصدقات والأنفس يعني بالأمراض، والثمرات يعني موت الأولاد، لأن الولد ثمرة القلب. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبد ي؟ قالوا: نعم. قال: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا نعم قال فماذا قال؟ قالوا: حمدك واسترجع قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن. فإن قلت ما الحكمة في تقديم تعريف هذ الابتلاء في قوله: {ولنبلونكم} قلت فيه حكم: منها أن العبد إذا علم أنه مبتلي بشيء، وطن نفسه على الصبر، فإذا نزل به ذلك البلاء لم يجزع. ومنها أن الكفار إذا شاهدوا المؤمنين مقيمين على دينهم ثابتين عند نزول البلاء صابرين له علموا بذلك صحة الدين فيدعوهم ذلك إلى متابعته والدخول فيه. ومنها أن الله تعالى أخبر بهذا الابتلاء، قبل وقوعه فإذا وقع كان ذلك إخباراً عن غيب فيكون معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ومنها أن المنافقين إنما أظهروا الإيمان طمعاً في المال وسعة الرزق من الغنائم فلما أخبر الله أنه مبتلي عباده فعند ذلك تميز المؤمن من المنافق والصادق من الكاذب، ومنها أن الإنسان في حال الابتلاء أشد إخلاصاً لله منه في حال الرخاء، فإذا علم أنه مبتلي دام على التضرع والابتهال إلى الله تعالى لينجيه مما عسى أن ينزل به من البلاء ثم قال تعالى: {وبشر الصابرين} يعني عند نزول البلاء والمعنى وبشر يا محمد الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به من الشدائد والمكاره، ثم وصفهم بقوله تعالى: {الذين إذا أصابتهم مصيبة} أي نائبة وابتلاء {قالوا إنا لله} أي عبيداً وملكاً {وإنا إليه راجعون} يعني في الآخرة.
(م) عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلاّ آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» قيل: ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة يعني الاسترجاع عند المصيبة ولو أعطيها أحد لأعطى يعقوب عليه السلام ألا تسمع إلى قوله عند فقد يوسف {يا أسفي على يوسف} وقيل: في قول العبد إنا لله وإنا إليه راجعون تفويض منه إلى الله وأنه راض بكل ما نزل به من المصائب.

.تفسير الآية رقم (157):

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
{أولئك} يعني من هذه صفتهم {عليهم صلوات من ربهم} قال ابن عباس: أي مغفرة من ربهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم صل على آل أبي أوفى» أي أغفر لهم وأرحمهم وإنما جمع الصلوات لأنه عنى مغفرة، بعد مغفرة ورحمة بعد رحمة {ورحمة} قال ابن عباس: ونعمة والرحمة من الله إنعامه وإفضاله وإحسانه، ومن الآدميين رقة وتعطف. وقيل: إنما ذكرت الرحمة بعد الصلوات لأن الصلاة من الله الرحمة لاتساع المعنى واتساع اللفظ وتفعل ذلك العرب كثيراً، إذا اختلف اللفظ، واتفق المعنى، وقيل: كررهما للتأكيد أي عليهم رحمة بعد رحمة {وأولئك هم المهتدون} يعني إلى الاسترجاع. وقيل: إلى الجنة الفائزون بالثواب. وقيل: المهتدون إلى الحق والصواب. وقال عمر بن الخطاب: نعم العدلان ونعمت العلاوة فالعدلان الصلاة والرحمة والعلاوة الهداية.
فصل في ذكر أحاديث وردت في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين:
(خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يصب منه» يعني يبتليه بالمصائب حتى يأجره على ذلك.
(ق) عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلاّ كفر الله عنه بها خطاياه» النصب التعب والإعياء والوصب المرض.
(ق) عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلاّ حط الله عنه من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها».
(ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تحصد» الأرزة شجر معروف بالشام ويعرف في العراق، ومصر بالصنوبر والصنوبر ثمرة الأرزة وقيل: الأرزة الثابتة في الأرض. عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أراد الله بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبد ا شراً أمسك عنه حتى يوافي يوم القيامة» وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» أخرجه الترمذي. وله عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض» وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» وقال حديث حسن صحيح.
(خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: ما لعبد ي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلاّ الجنة عن سعد بن أبي وقاص وقال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.

.تفسير الآية رقم (158):

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
قوله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الصفا جمع صفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، وقيل هي الحجارة الصافية. والمروة الحجر الرخو، وجمعها مرو ومروات وهذان أصلهما في اللغة، وإنما عنى الله بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي المسعى، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام وشعائر الله أعلام دينه وأصلها من الإشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة وكل ما كان معلماً لقربان يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة، ودعاء وذبيحة فهو شعيرة من شعائر الله. ومشاعر الحج معالمه الظاهرة للحواس ويقال: شعائر الحج فالمطاف والموقف والمنحر، كلها شعائر والمراد بالشعائر هنا المناسك التي جعلها الله أعلاماً لطاعته فالصفا، والمروة منها حيث يسعى بينهما {فمن حج البيت} قصد البيت هذا أصله في اللغة وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة لإقامة المناسك {أو اعتمر} أي زار البيت والعمرة الزيارة ففي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيادة {فلا جناح عليه} أي فلا إثم عليه وأصله من جنح إذا مال عن القصد المستقيم {أن يطوف بهما} أي يدور بهما ويسعى بينهما. وسبب نزول هذه الآية، أنه كان على الصفا والمروة صنمان يقال لهما إساف ونائلة فكاف إساف على الصفات ونائلة على المروة وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا، والمروة تعظيماً للصنمين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام، تحرج المسلمون عن السعي بين الصفا والمروة فأنزل الله هذه الآية وأذن في السعي بينهما وأخبر أنه من شعائر الله.
(ق) عن عاصم بن سليمان الأحوال قال قلت لأنس: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}. وفي رواية قال: كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى نزلت {إن الصفا والمروة من شعائر الله}.
فصل:
اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة، فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة وبه قال الحسن: وإليه ذهب مالك والشافعي وذهب قوم إلى أنه تطوع. وهو قول ابن عباس: وبه قال ابن سيرين وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أنه ليس بركن وعلى من تركه دم وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء أن من تركه فلا شيء عليه واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك فروي عنه أن من ترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه حجة وروي عنه أنه لا شيء في تركه عمداً، ولا سهواً ولا ينبغي أن يتركه ونقل الجمهور عنه أنه تطوع وسبب هذا الاختلاف أن قوله تعالى: {فلا جناح عليه} يصدق عليه أنه إثم عليه في فعله، فدخل تحته الواجب والمندوب والمباح فظاهر هذه الآية، لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب أو ليس بواجب، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام الثلاثة لا دلالة فيه على خصوصية أحدهما، فإذا لابد من دليل خارج يدل على أن السعي واجب أو غير واجب فحجة الشافعي ومن وافقه في أن السعي بين الصفا والمروة، ركن من أركان الحج والعمرة، ما روى الشافعي بسنده عن صفية بنت شيبه، قالت: أخبرتني بنت أبي تجزاة واسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول: إني لأرى ركبته وسمعته يقول:
«اسمعوا فإن الله كتب عليكم السعي» وصححه الدارقطني.
(ق) عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قول الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه، أن لا يطوف بهما إنما نزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية.
(م) عن جابر في حديثه الطويل في صفة حجة الوداع قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: «إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا» الحديث فإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى وجب علينا السعي لقوله تعالى: فاتبعوه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» والأمر للوجوب ومن القياس أن السعي أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ويؤتى به في إحرام كامل فكان ركناً كطواف الزيارة واحتج أبو حنيفة ومن لا يرى وجوب السعي بقوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} وهذا لا يقال في الواجبات ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: {ومن تطوع خيراً} فبين أنه تطوع وليس بواجب. وأجيب عن الأول بأن قوله تعالى: {فلا جناح عليه} ليس فيه إلاّ أنه لا إثم على فعله وهذا القدر مشترك بين الواجب، وغيره كما تقدم بيانه فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب. وعن الثاني وهو التمسك بقوله تعالى: {ومن تطوع خيراً} فضعيف لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور، أولاً بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئاً أخر يدل على ذلك قول الحسن: إن المراد من قوله: {ومن تطوع خيراً} جميع الطاعات في الدين يعني فعل فعلاً زائداً على ما افترض عليه من صلاة وصدقة وصيام وحج وعمره، وطواف، وغير ذلك من أنواع الطاعات.
وقال مجاهد: ومن تطوع خيراً بالطواف بهما وهذا على قول من لا يرى الطواف بهما فرضاً وقيل معناه ومن تطوع خيراً فزاد في الطواف بعد الواجب والقول الأول أولى للعموم {فإن الله شاكراً} أي مجاز على الطاعة {عليم} أي بنيته وحقيقة الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه والشكر هو تصور النعمة، وإظهارها والله تعالى لا يوصف بذلك لأنه لا يلحقه المنافع والمضار، فالشاكر في صفة الله تعالى مجاز فإذا وصف به أريد به أنه المجازي على الطاعة بالثواب، إلاّ أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مظاهرة في الإحسان إليهم.